شنــودة أيها السادة ُ الكبار ُ بقلم فاطمة ناعوت

51 20190816150350

شنــودة
====
أيها السادة ُ الكبار ُ
الحقَّ أقولُ لكم
إنني لا أعرفُ سوى هاتين العينين
اللتين تبكيانِ الآن غيَبتي
بعدما كانتا تُشرقانِ بالفرْح
كلما ركضتُ نحوهما
عينا أمي

وإنني
لستُ أعرفُ غير هاتين الكفّين
اللتين أمسكتا بكفيّ
وأنا نحو الحياةِ أخطو
خُطوتي الأولى
لئلا أسقطَ
كفّا أبي.
***
الحقَّ أقولُ لكم
إن لم تعودوا كالأطفال
لن تعرفوا ماذا أقول

لا تحسَبوا صمتي قَبولاً
ولا فهمًا لما تصنعون في عالمكم
أيها الكبارُ
بل هو صمتُ الحيارى
حين يُدهش الأطفالُ من تصاريفِ الزمان
تلك التي
تُحوّل الحرمانَ دفئًا
لحظةَ الميلاد
وذات ليلٍ أسودَ حالكٍ
يُنتزعُ الرجاءُ
فيستحيلُ الدفءُ صقيعًا جارحًا
وحرمانا
لأن حفنة َمالٍ
أبرقتْ في عيون الطامعين.
***
انظروا من كُوَّة الزمان
نحو الأمسِ الذي كانَ
يومَ قذفتْ بي الحياةُ إليكم
وحيدًا
متروكًا
هذا جسدي النحيلُ
مُضمَّخًا كان بدمِ المخاض
مُدثرا في لُفافاتِ المشيمة
ملقيًّا على البلاط البارد
في ركنٍ ناءٍ
عن صحنِ المذبح
أصرخُ
عطشًا
وبردًا
وغُربةً
ويُتمًا
حتى أشفقت لحالي أجراسُ الكنائس
فتعالى رنينُها بكاءً نازفًا
أيقظَ النيامَ
وعند لحظة الاحتضار
التقطتني يدُ راهبٍ
واختلطت دموعُه بدموعي
ثم جاء ملاكٌ
ببشارةِ قيامتي
أخبر الراهبَ عن حالِ أمٍّ لم تلد
وأبٍ
لم يذُق طعمَ الوليد
قال الملاك:
شِنٌّ وافقَ طبقَه
أيها الراهبُ
اطرقِ البابَ عليهما
وقل لهما:
هذا عطيةُ الرحمن لكما
فامنحاه الحُبَّ
وكونا له أبًا وأمًّا
فكانا لي
أمًّا وأبًا.
***
هذه أمي
قالت لأبي:
قُرَّة عينٍ لي ولك
أرضعتني من قلبها حليبَ الشغف
وهذا أبي
قال لأمي:
عسى أن نتّخذه ولدًا
صنع من ظهرِه صخرةً عليها أتكئ

دونها
قلبي يجفُّ جدبًا
ودونه
ظهري ينكسر.
***
كلمتي الأولى
كانت تردادًا لصوت تلك الباكية
التي لا أعرفُ أمًّا سواها
خُطوتي الأولى
كانت فوق بُساط قلب ذاك الباكي
الذي لم أر أبًا إلاهُ.
***
أيها الكبارُ
الذين تسنّون قوانينَ الميلاد
والأنساب
والانتساب
أيها الأجلاءُ
الذين تنزعون الأسماءَ
من أوراقنا
وتغرسون غيرها
فأصيرُ يوسفَ
أو المنسيَّ
فجميعُ الأسماءِ تشابهت
أمامَ ربِّ العالمين

أيها الكبارُ الذين
تصكّون الأحكامَ
وتُمهرون مصيري بإمضائكم
تمهّلوا
وأنصِتوا إلى وجيبِ قلبي الخائف
الذي بعدُ
لا يعرفُ ميزانَ عدالتِكم
ولا يفهمُ شيئًا
في حساباتكِم المعقدة

أمهلوني بضعَ سنينَ
حتى أنسجَ من خيوط اليُتم
مناديلَ بيضاءَ
تحضنُ دموعَ أمي وأبي
ثم أمهلوني ساعةً
حتى تعتادَ عيناي على العتمة التي
سوف تلقون بي في ظلالها
حين أتركُ حِضنَ أمي
إلى حيث لا حِضنَ
وأغادرُ كتفَ أبي
إلى حيثُ أرض ٍ
لا ترحبُ باليتامى
والغرباء

انتظروني عند قارعةِ الطريق
ريثما ألملمُ لُعبي
وكراساتي
وقطعَ الصلصالِ الملون
لألقي بها في النهر
فلم أعد أرغبُ فيها

وحين تلتقي عيناي بعيونكم
لا تشخصوا طويلا في ضعفي
بل أوقفوا صريرَ الإنذار
وأبواقَ الوعيد
تلك التي تزأرُ أمام باب البيت
الذي ما عاد بيتي

فأنتم تُخيفونني
بصخبِ عالمكم
وتُفزعونني
بقرعِ مطارقكم
على طاولاتِ تقربر المصير

أحتاجُ وحسبُ
إلى شيءٍ من الصمت
ريثما أتأهبُ للذهاب معكم
إلى حيث تريدون

مكتوبٌ
أن أعودَ من جديدٍ
من حيثُ أتيتُ
إلى حيثُ نذرتني الحياةُ
إلى البلاطِ الباردِ
والعيونِ الخاوية
والغدِ المجهول.
****
فاطمة ناعوت
#الطفل_شنودة

يستخدم هذا الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على ذلك ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك. قبول قراءة المزيد